فالعمل الذي لا تتأقلم معه ولا تحبه فهو سجن، والرفاق وزملاء العمل الذين لا يشبهون طباعك وأخلاقك ويكونون مفروضين عليك وتكون مجبرًا على التعامل معهم فهم سجن.
والطريق الذي أجبرتك عليه الحياة والظروف أن تسلكه وأنت لست محبًا له فهو قيد وسجن، حتى رفيق الحياة والأقارب حين لا تنسجم معهم ولا تشعر بالانسجام والتوافق ومشاركة الاهتمامات معهم فيصبح تواجدك معهم قيدًا كبيرًا.
والمجتمع المحيط بك بل الوطن ذاته بكل تفاصيله وبمفهومه الكبير حين تجد نفسك تعيش فيه فاقد الهوية الخاصة بك، فاقدًا لأبسط حقوقك كمواطن وكإنسان، فاقدًا لحماية رأيك وحقوقك في التعليم والعلاج والمأكل والمشرب، فاقدًا لحماية مستقبلك وتطلعاتك لغد أفضل.
حينها تكون سجينًا وأنت حر، تكون غريبًا وأنت داخل حدود الوطن، مشردًا وأنت تحيا على أرضه، وفقيرًا جدًا وأنت من حولك خيرات ليس لها آخر، وفاقدًا للأهلية رغم أنك بكامل قواك العقلية، والأهم أنك تصبح فاقدًا للشغف رغم أنك في عمر الشباب.
وهنا يأتي السؤال: ما فائدة حرية الجسد والروح والقلب سجين؟
ويحضرني هنا وبقوة قصة الهجرة الأولى للمسلمين إلى أرض الحبشة حين فروا بأنفسهم ودينهم من وطنهم وأرضهم إلى بلاد الحبشة في أفريقيا، والتي تختلف في كل شيء عن أرض شبه الجزيرة العربية في اللغة والدين والطباع، لكنهم امتثلوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال إن بها ملكًا عادلًا لا يُظلم عنده أحد.
وهنا فقط يتجلى المعنى الحقيقي للحرية وهي العدالة، فإذا عشت في أرض تسود فيها العدالة حتى وإن كنت غريبًا فإنك تحيا في أمان، تأمن على دينك ومالك، تأمن على روحك، وتتحرك في طمأنينة بحرية لا تخشى شيئًا، وقتها فقط تشعر بالحرية بمعناها الأكبر والجميل.
ولا أنسى في هذا السياق أن أذكر كتاب السيرة الذاتية للكاتب الكبير توفيق الحكيم حين كتب قصة حياته في كتاب اسمه (سجن الأيام)، وكأنه يقول إن الحياة التي عاشها رغم أنه كاتب ومثقف ومشهور وسافر شرقًا وغربًا وصافح الرؤساء والوزراء وكان له صالون أدبي كبير يحضره الأدباء والكتاب والشعراء والمفكرون، لكنه سمّى سيرته الذاتية بالسجن.
فليس بعد الوعي الإنساني وإدراكه الحقيقي للحرية رأي آخر، فمهما كنت حرًا طليقًا سوف تظل سجينًا لشيء ما.
فكل منا له سجنه الخاص به، وكل منا له مساحاته الخاصة التي يحلّق فيها بمنتهى الحرية


0 تعليقات