✍️ : د. كريم ابوعيش
لم يكن صباح اليوم عابرًا على المشهد السياسي المصري. فبينما كانت البلاد تترقب ما ستسفر عنه أجواء المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، جاء تصريح الرئيس عبدالفتاح السيسي ليقلب حالة الترقب إلى يقظة كاملة، وليحول النقاش العام من متابعة النتائج إلى مراجعة جوهر العملية الانتخابية ذاتها. كلمات الرئيس بدت حادة وواضحة، لا تقبل التأويل: إرادة الشعب يجب أن تكون مصانة… والنتائج لا بد أن تعبر تعبيرًا كاملًا عمّا اختاره المواطن داخل الصندوق.
تلك الرسالة المباشرة لم تمرّ طويلًا قبل أن يخرج رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات، المستشار حازم بدوي، بتصريح بدا وكأنه استكمال طبيعي للهجة الرئاسية. بدوي، في مؤتمره الصحفي، لم يترك مساحةً للظنون أو المجاملات السياسية، بل أعلن بوضوح أن الهيئة لن تتستر على مخالفة، وأنها تدرس جميع الشكاوى التي تلقتها، حتى تلك التي تمسّ صميم المرحلة الأولى. الأكثر وضوحًا كان حديثه عن أن الهيئة لا تستبعد — من حيث المبدأ والإجراء — إعادة الانتخابات في دوائر معينة أو حتى إلغاء المرحلة الأولى بالكامل إذا ثبت أنها لم تُعبر بصدق عن إرادة الناخبين.
هكذا، ووسط حالة من الجدل الشعبي، وجد المصريون أنفسهم أمام مشهد غير مألوف: رئيس الدولة يطالب بتعزيز الشفافية، وهيئة الانتخابات تلمّح — لأول مرة بهذا الوضوح — إلى إمكانية اتخاذ إجراءات جذرية لحماية العملية الديمقراطية.
كان تصريح الرئيس موجّهًا إلى أكثر من طرف. إلى الناخب الذي ذهب إلى لجنته مؤمنًا بأن صوته قادر على إحداث فرق. وإلى المرشح الذي ظنّ أن الانتصار يمكن أن يأتي عبر طرق ملتوية أو تفاهمات غير معلنة. وإلى الهيئة الوطنية للانتخابات التي تتحمل وحدها مسؤولية صيانة الصندوق، وحماية النتيجة، وفرض قواعد اللعبة على الجميع بلا استثناء.
الرئيس تحدث بمنطق الدولة التي لا تقبل بأن تتعرض مؤسساتها لأي اهتزاز، ولا تسمح بأن يشكك أحد في مصداقية انتخاباتها. أما المستشار حازم بدوي، فقد بدا وكأنه يرسل رسالة مماثلة، لكن بلغة القانون: “الهيئة ليست بمنأى عمّا حدث، والقرارات التي ستُتخذ ستكون مبنية على وقائع، لا انطباعات”.
وفي خلفية هذا الحوار العلني، كان الشارع يهمس بأسئلته: هل حدثت تجاوزات بالفعل؟ هل هناك دوائر تحتاج إلى إعادة فرز أو إعادة اقتراع؟ وهل ستشهد مصر سابقة ربما لم تحدث من قبل بإلغاء مرحلة انتخابية كاملة؟
لا أحد يستطيع الجزم الآن، لكن المؤكد أن الباب لم يُغلق، وأن تصريحات اليوم فتحت الطريق أمام كل السيناريوهات.
ما يميز هذه اللحظة ليس فقط جدية التصريحات، بل توقيتها. فالعملية الانتخابية في مصر لطالما واجهت انتقادات من الخارج واتهامات من الداخل. لكن أن تأتي الإشارة الأولى من قيادة الدولة ذاتها — وبنبرة لا تخلو من الحزم — فهذا يعني أن ما قبل اليوم ليس كما بعده. ويعني كذلك أن هناك إدراكًا أن شرعية البرلمان القادم تبدأ قبل وصول النواب تحت قبته؛ تبدأ من لحظة اعتراف المواطن بأن صوته ذهب لمن اختاره فعلًا، لا لمن تم الترتيب له.
ولعل أهم ما يمكن قراءته في تصريح رئيس الهيئة هو أن مصر تقف اليوم أمام فكرة جديدة: أن الانتخابات ليست حدثًا إداريًا، بل عملية قابلة للمراجعة والمحاسبة والتصحيح. وأن الهيئة — لأول مرة — لا تتعامل مع الشكاوى كإجراءات شكلية، بل كملفات قد تغيّر النتائج، وقد تعيد رسم الخريطة الانتخابية من جديد.
إن ما قاله الرئيس وما أكده رئيس الهيئة يشيران إلى لحظة جدية في تاريخ الانتخابات المصرية. لحظة تُرسل إشارات واضحة للداخل والخارج بأن الدولة تريد انتخابات حقيقية، لا مجرد مناسبة دستورية. وأن النزاهة ليست شعارًا للاستهلاك السياسي، بل شرطًا أساسيًا لبناء برلمان قادم يملك شرعية كاملة، ويمثل الناس لا الأرقام.
يبقى أن ما سيحدث خلال الأيام المقبلة سيكون اختبارًا حقيقيًا للهيئة الوطنية للانتخابات. فالتصريحات — أيًا كانت قوتها — لا تكتسب قيمتها إلا عندما تتحول إلى قرارات واضحة، وإجراءات معلنة، وتقارير مفصلة تشرح للناس ما حدث وكيف سيُعالج.
وما بين تصريح الرئيس وتصريح رئيس الهيئة، يقف المواطن المصري مترقبًا… هل سيكون البرلمان القادم انعكاسًا صادقًا لصوته؟
أم أن الطريق لا يزال بحاجة إلى مزيد من المواجهة مع الأخطاء ومحاسبة المقصرين؟
ما نعرفه الآن أن الدولة قررت أن تُعلن موقفها بلا مواربة: صوت المواطن هو الأساس… ولا شيء أعلى من إرادته.
وما سنعرفه قريبًا هو ما إذا كانت هذه اللحظة ستتحول إلى نقطة تحول حقيقية… أم مجرد موجة عابرة في بحر السياسة المصرية.

0 تعليقات