في ظل التطور التكنولوجي المتسارع وانتشار وسائل التواصل الرقمي أصبحت جرائم النشر الإلكتروني ظاهرة متزايدة تثير العديد من التساؤلات حول الحدود القانونية والأخلاقية لحرية التعبير على الإنترنت فتوسع الفضاء الرقمي سهل عملية نشر المعلومات والأفكار بشكل غير مسبوق لكنه في ذات الوقت فتح المجال أمام استخدام هذه الوسائل في تشويه السمعة الشخصية وإلحاق الضرر بالآخرين مما يفرض ضرورة التوازن بين حق التعبير وواجب المسؤولية
شهدت وسائل التواصل الإجتماعي والنشر الرقمي تحولًا جذريًا في مفهوم حرية التعبير حيث أصبح بإمكان الأفراد التعبير عن آرائهم ومواقفهم أمام جمهور واسع وبشكل فوري، هذا الواقع الجديد أتاح فرصًا غير مسبوقة لتعزيز حرية التعبير لكنه في الوقت نفسه أثار تساؤلات جوهرية حول حدود هذه الحرية خصوصًا حين يتعلق الأمر بحماية السمعة الشخصية للأفراد
السمعة الشخصية ليست مجرد عنوان أو لقب بل هي جزء لا يتجزأ من كرامة الإنسان وحقه في أن يُحترم ويُعامل بإنصاف داخل المجتمع وبهذا المفهوم تحظى السمعة الشخصية بحماية قانونية صلبة في التشريعات المختلفة ومنها التشريع المصري الذي يمنع الاعتداء عليها من خلال الجرائم المتعلقة بالسب والقذف والنشر الضار سواء تم ذلك عبر الوسائل التقليدية أو الرقمية
ومع التوسع الهائل في استخدام الوسائط الرقمية برزت الحاجة إلى وضع أُطر قانونية تنظم استخدام هذه الوسائل وتحمي الأفراد من التعرض لتشويه السمعة أو الإساءة عبر منصات النشر الإلكتروني، يأتي قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 في مصر كأحد أهم التشريعات التي تهدف إلى ضبط هذا المجال إذ يفرض مسؤوليات واضحة على مستخدمي الإنترنت ويجرّم الأفعال التي تؤدي إلى إلحاق الضرر بالسمعة عبر الوسائل الإلكترونية
إن المسؤولية القانونية في جرائم النشر الإلكتروني تتوقف على توافر عدة عناصر منها الفعل المادي المتمثل في النشر أو التوزيع الإلكتروني للمحتوى والركن المعنوي الذي يتعلق بالنية في إحداث ضرر أو الإضرار بالسمعة بالإضافة إلى الوسيلة التي يسهل بها انتشار المحتوى بسرعة وبدون رقابة مسبقة وقد أكدت المحاكم على ضرورة مراعاة مبادئ العدالة والتناسب عند توقيع العقوبات مع الحرص على ألا تكون العقوبات أداة لفرض قيود تعسفية على حرية التعبير
وفي هذا السياق يبرز التحدي الأساسي الذي تواجهه السلطات القضائية والتشريعية في تحديد الحدود الفاصلة بين حرية التعبير التي تكفلها القوانين وبين التجاوزات التي تمس حقوق الآخرين وتتعدى على سمعتهم ويتطلب هذا التحدي فهماً عميقاً للسياقات المختلفة والنوايا الحقيقية للمصدر وطبيعة المحتوى المنشور وذلك لضمان تحقيق التوازن بين الحقين في إطار قانوني عادل
من جهة أخرى لا يقل أهمية عن التشريعات والقرارات القضائية الدور التوعوي والتثقيفي في تعزيز مفهوم المسؤولية الرقمية لدى المستخدمين فكلما زادت معرفة الأفراد بحقوقهم وواجباتهم كلما انخفضت احتمالات الوقوع في ممارسات قد تعرضهم للمساءلة القانونية وعليه فإن نشر الوعي بالقوانين المنظمة للنشر الإلكتروني وكيفية التعامل معها يصبح ضرورة ملحة لتعزيز الأمن الرقمي والحفاظ على بيئة تواصل صحية ومثمرة
وعلاوة على ذلك فإن تطور النشر الإلكتروني يستلزم مواكبة دائمة من قبل التشريعات لتغطية كافة أشكال الجرائم المستجدة في الفضاء الرقمي حيث تظهر باستمرار أساليب جديدة قد تُستخدم في التشهير أو نشر الأخبار الكاذبة أو استغلال منصات التواصل في الإساءة للآخرين، هذا يتطلب تحديث القوانين وتطوير آليات المراقبة القانونية مع ضمان احترام المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والحريات العامة
وينبغي التأكيد على أن حماية السمعة الشخصية في الفضاء الرقمي لا تعني التضييق على الحريات بل تعكس حرص المشرع على إيجاد توازن ذكي يُمكّن الأفراد من التعبير بحرية مع احترام حقوق الآخرين وهذا التوازن يحتاج إلى تعاون مستمر بين الجهات التشريعية والسلطات القضائية وأجهزة الرقابة فضلاً عن المستخدمين أنفسهم للحفاظ على مناخ من المسؤولية الرقمية يُعزز من ثقافة الحوار ويرفض التعصب والتشويه ويصون كرامة الجميع في عالم متصل ومتغير
إن حماية السمعة الشخصية في الفضاء الإلكتروني تشكل ضرورة ملحة توازي أهمية حرية التعبير ولابد من وجود توازن دقيق يضمن احترام حقوق الأفراد وحرياتهم في الوقت نفسه وهذا التوازن يتحقق عبر تشريعات متطورة وجهود توعوية مستمرة وتعاون فعّال بين جميع الأطراف لضمان بيئة رقمية آمنة ومسؤولة تنفع الجميع وتكرم الإنسان في جوهر كينونته..
0 تعليقات