د.محمد خليفة الباحث بمعهد التخطيط القومى يكتب : في حضرة الثانوية العامة: لجنة تسرق النوم وتزرع القلق

يونيو شهر لا يأتي بالحرارة وحدها، بل يصاحبه رعب الثانوية العامة الكلمة وحدها كفيلة بأن تسكت الضحك في البيوت، وتخمد طمأنينة الأمهات، يبدأ الموسم، وتبدأ معه طقوس الخوف، وكأن البلاد كلها تدخل حالة صمت رسمي، حيث لا يسمع إلا صوت الكتب المقلوبة، والقلوب المرتجفة، والأنفاس المحبوسة.
في حضرة الثانوية العامة، لا أحد ينام الطالب يتقلب بين أوراقه وهمومه ومذكراته، يحفظ في الليل وينسى في الصباح، يخشى السؤال كما لو كان فخا، ويراجع الإجابات كمن يفتش في قنبلة موقوتة، والأهل يعيشون القلق وكأنهم سيجلسون في اللجنة معه البيت يتحول إلى معبد للمذاكرة والتفتيش والمراجعة، تمنع الاصوات والضوضاء، ويعلن الحظر الطوعي على الضحك، والحركة وعلى الحياة كلها
ثم يأتي يوم الامتحان يبدأ الطالب رحلته إلى اللجنة، ليس وكأنه ذاهب لاختبار علمي، بل كما لو كان يدخل امتحانا للحياة نفسها، على وجهه علامات السهر والقلق في يده شنطة صغيرة وقلب كبير يرتجف. يصل إلى المدرسة في وقت مبكر، لكنه لا يشعر بالأمان، فالقلق يسبقه إلى باب اللجنة،
أما في الداخل، تسود رهبة لا تشبه أي شيء آخر. الجدران صامتة، الوجوه واجمة، والمقاعد تحولت إلى مقاعد انتظار مصير، المراقبون يتحركون في صمت، أعينهم لا تترك أحدا، التعليمات تتكرر: لا تتكلم، لا تلتفت، لا تطلب شيئا، لا تفعل شيئا سوى أن تحل. كأن على الطالب أن يتحول إلى آلة، لا تنفعل، لا تتوتر، لا ترتبك، ولا تخطئ.
ورقة الأسئلة ليست مجرد أوراق، بل مرايا تعكس كل ليالي التعب، وكل لحظة خوف. يقرأها الطالب وكأنها لغز، يحاول أن يتذكر، أن يربط، أن يكتب، لكن الوقت يمضي والعرق ينزل، وأحيانا الدموع أيضا. لا لأن الامتحان صعب دائمًا، بل لأن الضغط لا يحتمل، والخوف يأكل التركيز.
هكذا تمر الثلاث ساعات ليس امتحانا في المادة فقط، بل امتحان في الصبر، والثبات، والتحمل النفسي. وحين ينتهي، لا يشعر الطالب بالارتياح، بل بالإنهاك، يخرج من اللجنة كمن نجا من اختبار بقاء، لا يفرح، ولا يحزن، فقط يريد أن ينام… لكن لا وقت للنوم، غدًا امتحان جديد، ولجنة جديدة، ومزيد من القلق.
الثانوية العامة في مصر ليست مجرد مرحلة تعليمية، بل تجربة وجدانية عميقة لا أحد يخرج منها كما دخلها، تغير الطالب، وتنضج أسرته قسرًا، ويذوب العام كله في بضعة أيام من القلق المتراكم. لجنة واحدة كفيلة بأن تسرق النوم من عين طالب، وتسرق الراحة من قلب أم، وتزرع التوتر في بيت كامل.
فهل نبالغ ربما، لكن اسألوا وجوه الطلاب عند خروجهم، اسألوا الأمهات الجالسات أمام المدارس، اسألوا الأسر التي تدعو كل صباح أن "يعديها ربنا على خير"
نحن لا نطلب امتحانات سهلة، بل نطلب فقط أن يكون في التعليم شيء من الرحمة، في اللجنة شيء من الفهم، وفي التقييم شيء من الإنسانية.
لأننا إن أردنا أبناءً أقوياء وواثقين، يجب أولًا أن نأمنهم من القلق، لا أن نزرعه فيهم… باسم الامتحان.
اللهم هون ويسر عليهم ثقل الامتحانات يارب العالمين

إرسال تعليق

0 تعليقات

close
ضع اعلانك هنا