المجالس العرفية تمثل إرثًا اجتماعيًا طويل الأمد في المجتمعات العربية، خصوصًا في المناطق الريفية والعشائرية. لقد ظهرت هذه المجالس كبديل شعبي للمحاكم الرسمية بهدف حل النزاعات بسرعة والحفاظ على العلاقات الاجتماعية. ولكن مع مرور الوقت، بدأت تظهر سلبيات عديدة لهذا النظام، بعضها يعصف بمبادئ العدالة، ويهدد حقوق الأفراد، خاصة عندما ينعدم الضمير أو تتدخل المصالح الشخصية.
*الإيجابيات: الصورة المثالية*
رغم السلبيات التي سأتحدث عنها لاحقًا، لا يمكن إنكار وجود بعض الإيجابيات التي كانت السبب في انتشار المجالس العرفية:
1. *السرعة في حل القضايا:* المحاكم العرفية عادة ما تصدر أحكامها خلال أيام أو أسابيع، بينما تستغرق المحاكم الرسمية شهورًا وربما سنوات.
2. *الحفاظ على العلاقات الاجتماعية:* بحكم ارتباطها بالأعراف والتقاليد، تهدف المجالس العرفية إلى إخماد الخلافات بطريقة تُبقي على العلاقات بين الأفراد والعائلات.
3. *تكلفة أقل:* اللجوء إلى المجالس العرفية أقل تكلفة بكثير من دفع أتعاب المحامين والمصاريف القضائية.
*السلبيات: الوجه المظلم للمجالس العرفية*
ورغم هذه الإيجابيات، فإن السلبيات التي تواجهها المجالس العرفية تهدد بتحويلها إلى أداة للظلم بدلاً من تحقيق العدالة.
1. *غياب النزاهة وانتشار الرشاوى*
من أكبر المشكلات التي تواجه المجالس العرفية هي انعدام الشفافية. هناك محكمون عرفيون يستغلون مواقعهم لتحقيق مكاسب شخصية من خلال قبول الرشاوى أو الانحياز لطرف ضد الآخر مقابل المال أو المصالح. وهنا تتحول المجالس من منصة للعدل إلى ساحة يتاجر فيها البعض بحقوق الضعفاء.
2. *انعدام الضمانات القانونية*
الأحكام التي تصدر عن المحاكم العرفية غير مدعومة بأي ضمان قانوني، فلا يمكن استئناف الحكم أو مراجعته. هذا الأمر يترك الطرف المظلوم بلا خيار سوى القبول بالظلم.
3. *الانخداع بالمحكمين*
شخصيًا، مررت بتجارب مع محكمين كنت أظنهم يتمتعون بالنزاهة والعدل، لكنني اكتشفت أنهم كانوا يستغلون ثقتي لتحقيق مصالحهم الخاصة. هؤلاء الأشخاص يمثلون الوجه السلبي للنظام العرفي، حيث يخدعون الناس باسم العرف والتقاليد.
4. *محاباة الأقوياء على حساب الضعفاء*
غالبًا ما تميل المجالس العرفية لصالح الأطراف الأكثر نفوذًا أو مالًا. يتم تجاهل حقوق الفقراء والمستضعفين في كثير من الأحيان، مما يعزز الإحساس بالظلم والمرارة لدى هذه الفئات.
5. *تضارب مع القوانين الرسمية*
أحيانًا تصدر المجالس العرفية أحكامًا تتعارض مع القانون الرسمي، مما يؤدي إلى تعقيد الموقف القانوني، خاصة إذا قرر الطرف المتضرر اللجوء لاحقًا إلى القضاء.
*أمثلة من الواقع*
لقد شاهدت بنفسي مواقف تعكس هذا الوجه المظلم. كان هناك محكم عرفي معروف في منطقتنا، ظن الجميع أنه يمثل النزاهة والحكمة، لكنه في الواقع كان ينحاز دومًا للطرف القوي الذي يقدم له المال. رأيت كيف تم تدمير حياة أشخاص فقط لأنهم لم يتمكنوا من دفع "الثمن" المطلوب للحصول على حكم عادل.
*كيف نصلح الوضع؟*
لإعادة الثقة في المجالس العرفية، لا بد من وضع ضوابط صارمة، منها:
1. *تحديد معايير اختيار المحكمين:* يجب أن يكون المحكمون من أصحاب النزاهة والكفاءة، مع وجود سجل واضح لأعمالهم السابقة.
2. *إشراف جهة محايدة* : يمكن إنشاء لجنة تراقب عمل المحكمين العرفيين لضمان الشفافية والنزاهة.
3. *توعية المجتمع* : يجب أن يدرك الناس أهمية التوجه للقضاء الرسمي، وعدم الاعتماد المطلق على المجالس العرفية.
4. *ربط المجالس بالقانون الرسمي:* يمكن أن تعمل المجالس العرفية كوسيط في النزاعات، ولكن بشرط أن تكون قراراتها قابلة للتصديق من القضاء.
ختاماً :
المجالس العرفية كانت في الأصل وسيلة لحل النزاعات ودعم العدالة، لكنها في بعض الأحيان تتحول إلى منصة للفساد والظلم عندما تغيب الرقابة ويغيب الضمير. يجب أن نعيد تقييم دور هذه المجالس، ونبحث عن وسائل لضمان نزاهتها وعدالتها، لأن أي نظام يفتقر إلى الشفافية والمحاسبة يتحول إلى أداة لاضطهاد الضعفاء.
0 تعليقات