وهنا يحضرني قصة عن المأمون بن هارون الرشيد، حين حكم وصارت إليه الخلافة وأصبح أمير المؤمنين. فجاءته امرأة تشكو أحد ظلم أحد الجبارين الذين أخذوا ضيعتها بغير حق، وأنها امرأة مات عنها زوجها وترمّلت ولم تستطع أن ترد هذا الظالم الذى أخذ أرضها. وجاءت الخليفة المأمون لتعرض مظلمتها ويكون الحاكم عونًا لها على من ظلمها.
واستمع الخليفة إليها ووعدها أن تأتي غدًا وتقول للقاضي على من ظلمها ويحكم في أمرها. وجاءت المرأة في اليوم الموعود، وسألها المأمون: من أخذ حقك يا أمه الله؟ فقالت: إنه هذا الرجل الذي بجوارك يا أمير المؤمنين، وكان هذا الرجل العباس بن المأمون ابن الخليفة.
فنزل الخليفة عن العرش، وأجلس القاضي مكانه، وقال: أحكم بينهم أيها القاضي. وبدأ مجلس القضاء. وهنا رفعت المرأة صوتها وقالت: أحكم بالحق واقتس لي منه أيها القاضي. وهنا صارَع الحرس إلى المرأة يقولون: اخفضي صوتك فأنتِ أمام الخليفة وفي مجلس القضاء. وهنا قال الخليفة المأمون بن الرشيد للحرس: دعوها فإن الحق أنطقها.
وهنا تتجلى عظمة الحاكم العادل الذي تجرد من العصبية لولده الظالم وانتصر لتلك المرأة الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة، بل وتركها تنادي ويعلو صوتها وهي تسأل القاضي أن يحكم بالعدل والمساواة.
فكم من صاحب حق يتمنى أن يعلو صوته، وأن يسمعه الحاكم، ويسمعه الناس جميعًا ليأخذ حقه ويشعر بالإنصاف. فالعدل أكبر نعمة يتمناها الإنسان المظلوم، فالعدل أساس الملك. وهذا ما فعله بصدق الخليفة المأمون، وكأنه في هذا الموقف تذكر أباه هارون الرشيد الخليفة العباسي الذي حكم الدنيا أكثر من ٦٣ عامًا يملك الأرض من مشارقها ومغاربها، ورغم ذلك حين كان يأتيهم المعلم الكسائي ليعلّم المأمون والأمين أولاد الرشيد، كان يأمرهم أن يجلسوا بين يديه بأدب طالب العلم وليس جلوس أبناء الخليفة.
فنعم الأب ونعم الابن الذي تعلم كيف يكون طالب علم، وكيف أصبح خليفة طالب حق يأمر بالعدل. وهنا تتجلى مقولة: من شب على شيئًا شاب عليه، وتتجلى حقيقة مؤكدة أن للحق صوتًا لا يعلوه صوت.
وإلى لقاء آخر في كلمة حق يعلو بها صوتنا.
0 تعليقات