د. كريم أبوعيش يكتب : سلوكك مرايتك ... الجدال ليس دليل قوة

يظنّ كثير من الناس أن الجدال دليل على الحضور والذكاء، وأن من يملك القدرة على الرد السريع والحديث الطويل هو الأقوى والأكثر فطنة. لكن الحقيقة أن الجدال المفرط لا يُثبت قوة، بل يكشف ضعف السيطرة على النفس، وانشغال الإنسان بإثبات ذاته أكثر من البحث عن الحقيقة.
إنّ الجدال في جوهره ليس ساحةً للمعرفة، بل ساحة للأنا. وفي معركة الأنا لا يوجد منتصر حقيقي؛ لأن كل طرف يخرج منها منهكًا، فاقدًا لاحترامه أو احترام الآخرين له. كم من صداقة انهارت بسبب نقاشٍ حاد، وكم من علاقة عملٍ توترت لأن أحدهم أراد أن تكون له الكلمة الأخيرة!

القوة الحقيقية لا تظهر في ارتفاع الصوت، بل في ثبات الموقف. لا في الإصرار على الانتصار، بل في القدرة على التراجع حين يكون الصمت أنبل من الكلام. فالعقل الناضج لا يحتاج إلى صخب ليُثبت نفسه، بل يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، ومتى يكتفي بالابتسام وترك الموقف يمرّ.
في أحيان كثيرة، يربح من اختار الهدوء أكثر ممن خاض الجدال حتى النهاية. فالصمت في لحظة الغضب لا يعني ضعفًا، بل هو قمّة الاتزان. أما الجدال العقيم، فهو نزيف للطاقة، يستهلك وقتنا ومشاعرنا بلا طائل، ويترك خلفه فتورًا في العلاقات وخسارة للقلوب.

وللأسف، هناك من يرى الجدال فرصة لإثبات الذات، فيحوّله إلى ساحة لاستعراض المعرفة أو لفرض الرأي. لكن الناس لا تنجذب لمن يجادل، بل تميل إلى من يستمع، ويحترم اختلاف الآخرين، ويعرف أن كسب الإنسان أهم من كسب النقاش.
إنّ الحكمة الحقيقية هي أن تختار معاركك بعناية. ليس كل رأي يستحق الرد، ولا كل استفزاز يحتاج تعليقًا. أحيانًا يكون الانسحاب من الجدال أبلغ رد، وأعمق رسالة. فكما يُقال: في الصمت هيبة، وفي الهدوء حكمة.

وفي النهاية، لن يتذكّر الناس كم كنت صائبًا في حجّتك، بل سيتذكّرون كيف كنت متوازنًا في سلوكك. وسلوكك مرآتك… فاحرص أن تعكس دائمًا نضجك واحترامك لنفسك قبل أن تبحث عن إثباتها أمام الآخرين.

إرسال تعليق

0 تعليقات

close
ضع اعلانك هنا