في زمن البث الحي هل يكفي الفيديو لقيام حالة التلبس!

 ✍️ محمود صلاح باحث دكتوراه في القانون الجنائي

أفرزت الثورة الرقمية واقعًا جديدًا كليًا لم تكن النصوص القانونية التاريخية تتوقعه بالكامل في ظل هذه التحولات أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مصدرًا رئيسيًا للمعلومات بل وأداة فعّالة في كشف بعض الجرائم وتوثيقها وقد أفرز هذا الواقع القانوني الحديث نقاشًا مهمًا حول مدى حجية الفيديوهات المنشورة على هذه المنصات في إثبات حالة التلبس وما يترتب على ذلك من صلاحيات لجهات الضبط الجنائي

غير أن طبيعة الجرائم المنشورة عبر وسائل التواصل تختلف عن الجرائم التقليدية فالجريمة الإلكترونية كبث فيديو للاعتداء أو التحريض على العنف هي جريمة ذات طابع مستمر في تأثيرها الواقعي إذ أن كل مشاهدة جديدة أو إعادة نشر تمثل امتدادًا للضرر

ووفقًا لقانون الإجراءات الجنائية يُعد التلبس من الحالات التي تبرر تدخلًا عاجلًا من سلطات الضبط دون الحاجة إلى إذن قضائي مسبق وفي هذا السياق فإن الفيديوهات التي توثق واقعة الجريمة أثناء حدوثها أو عقب وقوعها مباشرةً قد تُمثل قرينة مادية قوية على وجود حالة التلبس ما يبرر للسلطات الأمنية اتخاذ إجراءات سريعة ومنها القبض الفوري على المتهم

ومع ذلك فإن وجود إذن مسبق بالقبض أو التفتيش لا يتنافى مع حالة التلبس بل يُعد تعزيزًا لمبدأ الشرعية الإجرائية وضمانًا لسلامة الإجراءات أمام جهات التحقيق والقضاء فالفيديو وحده وإن كان ذا دلالة قوية لا يُغني عن الضمانات المقررة قانونًا خاصةً إذا شابه شك في مصدره أو صحته

ويُعد هذا الامتداد الطبيعي لحالة التلبس مواكبًا للتطورات التقنية التي فرضت نفسها على العمل الجنائي إذ إن نشر مقطع فيديو موثق لواقعة إجرامية يُعد بمثابة تسجيل مباشر للفعل وقد يترتب عليه تحقق شروط التلبس المنصوص عليها في المادة 30 من قانون الإجراءات الجنائية ويُجيز هذا للسلطة المختصة اتخاذ إجراء القبض دون توقف على إذن مسبق طالما أن الفعل تم ضبطه أو رصده في حالة من حالات التلبس الظاهرة والمباشرة

ومن هنا لا يُعد التصوير المنشور عبر وسائل التواصل قرينة تكميلية فحسب بل قد يرقى وفقًا للظروف إلى دليل يُبنى عليه إجراء القبض شريطة التأكد من صحة المقطع وسلامة مصدره وعدم وجود تلاعب تقني وهو ما يتطلب تعزيز التعاون بين جهات الضبط وخبراء الأدلة الرقمية وبذلك فإن التكييف القانوني للفيديوهات الرقمية يظل مرتبطا بثلاثة أركان:

1ـ الزمن.. يُشترط أن يكون توقيت تصوير الفيديو متزامنًا أو قريبًا جدًا من توقيت ارتكاب الجريمة حتى يتحقق عنصر المعاصرة الذي يُعد من شروط التلبس فالفيديوهات القديمة أو التي تُعاد مشاركتها دون تحديد زمني واضح تفقد قيمتها القانونية كأداة تلبس، القضاء الجنائي لا يُجيز اعتبار تسجيل مرّ عليه وقت طويل دليلًا على التلبس بل يُعامل كقرينة تحتمل التأويل

2ـ الوضوح.. يشترط أن يكون الفيديو واضحًا بدرجة كافية تسمح بتحديد هوية الفاعل ومكان ارتكاب الجريمة والركن المادي للفعل فإذا كان التصوير مهتزًا أو مظلمًا أو يظهر أشخاصًا غير معلومين دون تأكيد فإنه لا يصلح لتكوين حالة تلبس بل يُعامل كدليل استرشادي يخضع للتقييم

3ـ خلو الفيديو من التلاعب.. نظراً لتطور أدوات التزييف الرقمي فإن التأكد من سلامة الفيديو وخلوه من التعديلات الفنية هو أمر أساسي ويستلزم ذلك إخضاع المقطع للفحص الفني لدى خبراء الأدلة الرقمية أو معامل التحليل الجنائي الإلكتروني للتأكد من توثيق المصدر الزمني والمكاني وصحة المحتوى دون حذف أو دمج

أضحى الاعتماد على الفيديوهات المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي واقعًا لا يمكن تجاهله في إطار الإثبات الجنائي لا سيما حين تُوثّق وقائع إجرامية بصورة مباشرة ومع ذلك فإن قبول هذه المقاطع كدليل تلبس لا ينبغي أن يتم بمعزل عن ضوابط قانونية دقيقة تضمن حماية الحقوق الدستورية للمتهم وتكفل سلامة الإجراءات الجنائية 

فالفارق بين التلبس الحقيقي والادعاء الرقمي يكمن في قدرة العدالة على التحقق من التوقيت والمحتوى وسلامة المصدر وفي ظل تزايد التحديات التقنية يصبح من الضروري تطوير أدوات قانونية حديثة تكون أكثر تحديدًا ووضوحًا تحدد بشكل قاطع ما يمكن اعتباره جريمة إلكترونية مشهودة تُواكب هذا التطور بما يحقق التوازن بين مصلحة المجتمع في مكافحة الجريمة وحق الفرد في محاكمة عادلة تستند إلى أدلة موثوقة ومشروعة.

إرسال تعليق

0 تعليقات

close
ضع اعلانك هنا