أثارت ولا تزال سياسة ترامب الخارجية جدلًا عويصًا بين المحللين، واحتدم الجدل بقوة في ولاية ترامب الثانية التي لا تزال في بدايتها، لكنها حملت بعض التغيرات وقدرًا من الغموض إثر بعض سياسات ترامب التي تتناقض مع نهجه في ولايته الأول
يجادل كثير من الباحثين أن سياسة ترامب الخارجية تجسيدٌ لشعبوية، بينما يرى آخرون أنها انعكاسٌ لانعزالية، في حين يصر آخرون أنها انعكاسٌ لتصورات وأفكار وميول ترامب الخاصة.
أظهرت العشرة أشهر لترامب في البيت الأبيض اختلافًا طفيفًا في عقيدة وسياسات ترامب الخارجية عن ولايته الأولى، لكن في المجمل واصل ترامب معظم سياسات ولايته الأولى وبصورة أعنف، العاكسة في تصورنا لمزيج من الشعبوية والانعزالية وعقيدة ترامب الخاصة.
قد تبدّى منذ اليوم الأول لترامب في البيت الأبيض مواصلة نهجه العدائي وبصورة أعنف للعولمة والتجارة الحرة، وهو الأمر العاكس بجلاءٍ للشعبوية؛ وهو ما تجسد سريعًا في الرسوم الجمركية الخرافية على العالم كله بما في ذلك الحلفاء (الحرب التجارية على العالم)، إذ ناهزت الرسوم الجمركية على بعض الدول نسبة 70% ومن بينهم حلفاء.
وفي تصورات ترامب وقاعدته الشعبوية التي أغلبها من البيض؛ تُعد العولمة والتجارة الحرة واتفاقات أمريكا التجارية السابقة هي السبب الرئيس في دمار الاقتصاد الأمريكي، وفقدان ملايين الأمريكيين وظائفهم، وتفشي الفقر، وسرقة المهاجرين والأقليات الوظائف والخدمات من الأمريكيين البيض، وفساد النخبة التقليدية المتحالفة مع الرأسمالية المتوحشة.
تعميق التوتر مع الحلفاء (ميول انعزالية جلية)
ففي مؤتمر ميونخ للأمن الأول خلال ولايته الثانية، لم يحضر ترامب -رغم أهميته البالغة في رسم توجهات التحالف الأطلسي- بل أوفد بدلًا منه نائبه دِي فَانس، الذي صرّح بتصريحات أصابت الأوروبيين بصدمة بالغة، وأدت إلى بكاء رئيس المؤتمر..
إذ صرّح ضمنيًا بضرورة اعتماد أوروبا على نفسها لحماية أمنها، وزيادة مشاركتها مع واشنطن في الحماية، بل والأغرب من ذلك، قد انتقد تراجع الديمقراطية في أوروبا، وسياستها المفتوحة للهجرة.
وعلى نحو أخطر، واصل ترامب نفس سياسته العدائية تجاه الناتو -المظلة الدفاعية الرئيسية للتحالف الأطلسي- إذ أبدى في تصريحات كثيرة شكوكه حول فعالية الناتو، وهدد بالانسحاب إذا لم تزِد دول الناتو حصتها المالية في الميزانية.
تحقيق انعزالية أمريكية تامة أمر مستحيل، لكن مع ذلك تفرض ميول ترامب الانعزالية ومعه قاعدته الشعبوية نفسها على سياسته ومواقفه. إذ وفقًا لترامب وقاعدته، فإن فرض مرامي “أمريكا أولًا“ يستلزم تقليص مشاركة واشنطن في العالم؛ لأن الانخراط المتزايد قد أضعف أمريكا، وتحقيق مصالح أمريكا فقط على حساب الحلفاء والقيم إذا أمكن.
وعلى هذا الأساس، واصل ترامب هجومه على المنظمات الدولية، وانسحب من اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، واليونسكو، لأنها وفقًا لتصوره لا تحقق مصالح أمريكا، بل تستنزف أمريكا لصالح دول العالم.
نهج الصفقات وأولوية المصالح الاقتصادية (عقيدة ترامب الخاصة)
كسر ترامب التقليد الأمريكي الطويل عبر انتهاج نهج الصفقة التجارية في تعاطيه مع القضايا الدولية، والذي يرتكز على تحقيق أقصى استفادة اقتصادية ممكنة دون أية اعتبارات للقيم والحلفاء، أو أية خسائر أخرى.
وقد تبدى ذلك جليًا في سعيه لإبرام صفقة مع روسيا لإنهاء الحرب الأوكرانية لصالح روسيا مقابل الاستحواذ على نصف المعادن النادرة لأوكرانيا. وقُيِّس على ذلك في قضايا متعددة، مثل الحرب في غزة، حيث حاول إنهاء الحرب مقابل تحويل غزة إلى منتج سياحي عالمي باستثمارات أمريكية.
في أول أسبوع له في البيت الأبيض خلال ولايته الثانية، صدم ترامب العالم بتصريحات استعمارية؛ حيث هدد باحتلال بنما وجرينلاند، وضم كندا إلى الولايات المتحدة. ولعل ذلك يتنافى كليًا مع عقيدته وتفضيلات قاعدته، خاصة (حركة ماجا) التى تتراوح ما بين الشعبوية والانعزالية؛ وكلاهما يرفض تمامًا التوسع العسكري الإمبراطوري الخارجي.
قد اتفق أغلب المراقبين أن تهديدات ترامب ليست جدية، أو بالأحرى مستحيلة التحقيق، إذ تندرج في إطار عقيدة ترامب ونهجه الخاص الصفقة وسياسة حافة الهاوية، مع توهم باستمرار القوة الأمريكية الساحقة في ظل الأغلبية التي يملكها في الكونجرس، وكل ذلك قد دفع ترامب للتهديد مقابل الحصول على تنازلات أخرى وفقًا لنهج الصفقة التجارية، مثل تخفيض رسوم العبور للسفن الأمريكية من قناة بنما، وإجبار بنما على تقليص تعاونها القوي مع الصين.
إذًا، فالتحول الطفيف لترامب 2، لا يخرج عن عقيدته الخاصة التي تحمل نهج الصفقة البراغماتي، وإن كان التباين الوحيد فقط يكمن في التخفيف من وطأة الانعزالية، ومحاولة الاستمرار في الهيمنة العالمية، وهو ما تجلى بوضوح في ضرب المنشآت النووية الأمريكية رغم معارضة كبار رموز حركة ماجا.
0 تعليقات