✍️ : د. كريم ابوعيش
في كل بيئة عمل، وفي كل دائرة اجتماعية، يظهر دائمًا ذلك النموذج الذي يتحرك بخفة بين الناس، يلتقط الكلمات كما يلتقط العصفور الحبوب، ثم يطير بها إلى مكان آخر، معلنًا بداية قصة جديدة لها شكل آخر ولون آخر. الغريب أن هذه الشخصيات لا تتوقف، وكأن نقل الكلام بالنسبة لهم ليس مجرد عادة… بل أسلوب حياة يملأ فراغًا بداخلهم لا يستطيعون مواجهته.
ومع الوقت، تكتشف أن هؤلاء لا يفعلون ما يفعلونه بدافع الفضول فقط، بل بدافع شعور ناقص بالقيمة؛ كأنهم يبحثون عن دور يضمن لهم مكانًا في المشهد. وفي كل مرة يجدون كلمة عابرة أو خلافًا بسيطًا، يتحولون إلى “مراسلين” غير رسميين، يعيدون صياغة الحديث ويضيفون عليه ما يجعل القصة أكثر سخونة ليضمنوا استمرار تأثيرهم. لكنّ اللافت فعلًا أن هؤلاء نادرًا ما يظهر عليهم الرضا عن حياتهم؛ فمن يعيش على حكايات الآخرين نادرًا ما يملك حكاية تخصه.
ومع أن البعض يمارس نقل الكلام كهواية، إلا أن آخرين يعتبرونه وظيفة تناسب طموحاتهم الصغيرة؛ وظيفة تقرّبهم ممن يريدون، وتبعدهم ممن يخشون، حتى لو كان الثمن علاقاتهم، واحترام من حولهم، وسمعتهم المهنية. ومع مرور الوقت، يتآكل رصيد الثقة لديهم، لأن الناس بطبيعتها لا تمنح أسرارها لمن يتعامل معها كسلعة، ولا تحترم من يفرّط في خصوصيات الآخرين بسهولة.
وخطورة هذا النوع من السلوك أنه لا يكتفي بنقل الكلام… بل يصنع أزمة. كلمة تتحرك في الاتجاه الخاطئ تستطيع أن تهدم علاقة، وتشوه نية، وتحوّل موقفًا بسيطًا إلى خلاف أكبر من حجمه. وكل ذلك يبدأ من شخص واحد اعتقد أن دوره مهم، وأنه “لازم يبلغ”.
والغريب أن هذا السلوك لا يتعارض فقط مع الذوق، بل مع ما دعا إليه الدين من نصح صادق، وستر للناس، وحفظ للكلمة قبل خروجها. فالغيبة والنميمة ليستا مجرد أخطاء عابرة، بل سلوك يهدم الثقة ويقطع الودّ ويُحاسِب عليه الإنسان قبل أن يحاسب الناس. ومن يختار أن يكون ناقلًا للكلام، ينسى أن الكلمة أمانة، وأن الله يعلم السر وما يخفى، وأن ما يُقال في غياب الناس لا يضيع عند خالقهم.
ولذلك…
ولو اخترت تكون "عصفور كلام"، فلا تتوقع إن حد يشوفك نسرًا.
المرايا لا تجامل، ولا تزيّن العيوب… بل تعكس صاحِبَها كما هو، بصوته، وطريقته، وبكل كلمة نقلها من مكان إلى مكان بحثًا عن إحساس مؤقت بالأهمية.
وفي النهاية… يبقى المبدأ الذي لا يتغيّر:
سلوكك مرايتك… والمرايا لا تجامل أحدًا.

0 تعليقات